ليالى المشربيه

المكان قهوة المشربية ، قهوة عتيقة فى وسط البلد ، صاحبها الحاج فتحي ، دائما يجلس أمام مكتبه بجلبابه العربي و عمته ناصعة البياض و شاربه الكث بجانبه الشيشة القص كما يطلق عليها ، يعرف كل من يدخل او يخرج من القهوة دون عناء يُذكر ، بندق القهوجى ببنيته الهزيله و قميصه اللبنى تحسبه من بهتان لونه أن عمره من عمر صاحبه ذا الستون عامًا ، زوار القهوة أغلبهم من أصحاب المعاشات و زوجاتهم ، يلعبون الدومينو أو الطاوله فى نفس المعاد و على نفس الطاولة
لحظة دخولي نظر لي الحاج فتحي متعجبًا
أنا : سلام عليكم يا معلم
الحاج فتحي : وعليكم السلام يا بنتي ، أومال جايه لوحدك ليه و فين الأستاذ
أنا ( عيني مليئة بنظرات الحسرة و دموعي توشك على إعلان انتفاضها من مكمنها ) : مات
بعد لحظات من الصمت
الحاج فتحي (و على وجهه بعض الوجوم) : لا حول ولا قوة إلا بالله البقاء لله يا بنتي ، حصل إمتي الكلام ده إنتوا لسه كنتوا هنا من كام يوم وأشار بيده تجاه الطاوله التي إعتدنا الجلوس عليها سويا،
إنهمرت دموعي حين رأيت الطاولة ولم تعد قدمي قادره علي الثبات وإختل توازني ، كدت أن أفقد وعيي ، أنتبهت بصعوبة لصيحات المعلم فتحي لصبيه بندق : هات كرسي بسرعه للاستاذه يابني ، وحدي الله مش كده
كانت أول مرة أجلس علي طاوله غير التي إعتدنا الجلوس عليها دائما وكأنها حُرمت على منذ رحيله ،سرت قشعريرة على عمودى الفقرى إثر تذكر آخر لقاء بيننا كأنه يحدث الأن
فى ليلة شتوية حذرت منها الأرصاد قائلة ( ليلة مليئة بعدم الإستقرار الجوى )
المنزل ، إستيقظت إثر كابوس مرعب أسفر عن إنقباضة روحي توحى أن حدثًا سيئا على وشك الحدوث، لم يلقى بالًا لحديثي حين قلت له : بلاش تنزل إنهارده ، قلبي مقبوض و مش مرتاحه ، حاسه فيه حاجة وحشه هتحصل
هو( بنظرته الحنونه دومًا ) : متخافيش ، إنتي بس اللى قلبك خفيف و بتقلقى بسرعه
أنا : طيب خدني معاك بلاش تنزل لوحدك
هو : انتي زنانه و عارف إنى مش هخلص من وجع الدماغ ده ، ادخلى إلبسى بسرعه .
القهوة ، قرر الحاج فتحي عدم رص الكراسي الخرزان القديم كقدم بيوت وسط البلد فى مكانها المعتاد بوسط الشارع ،دلفنا من باب القهوه و جلسنا نتسامر مع روادها المعتادون ، بدأنا دور طاوله محبوسه ، و بوسط اللعبة نظرت إلى الخارج و رأيت الأمطار التي بدأت فى الهطول بشدة ، جذبت ذراعه لينتبه لكلامي : يلا نروح بقى عشان المطرة
هو : خلاص يلا
خرجنا متجهين إلى المنزل ، أحتضن يده بكلتا يداي محتميه به من الأمطار ، منذ ذهبنا إلى الطبيب و أعلن عدم مقدرتنا على الإنجاب أصبح هو طفلي الاول و الأخير ، رفيق دربي الأوحد و روحي التائهة ، تبقى بضعة أمتار فقط على المنزل ، إذ بسيارة مسرعة بشدة آتية بإتجاهنا ، ضغط المكابح بأقصى قوة ولكن من سوء الحظ كانت الأمطار قد جعلت من الأسفلت زلقًا للغاية ، لم يجد الوقت الكافى لتلافينا و لم نجد ما يكفى من الوقت لتفاديه  ، أتت آخذه معها قلبي و نصفى الآخر ، فقط لحظات قليلة و سقط على الأرض مضجرًا فى دماءه ، توقف الوقت لبرهة و توقفت معه أنفاسى ، لا أعرف متى أخذ الناس فى الإلتفاف حولنا ولا متى جاءت عربه الإسعاف لتحمله و تحملنى معه فى طريقها إلى المشفى ، فُقت من الصدمة لأجد أجهزة وخراطيم كثيرة موصلة بجسده المليئ بالكدمات معلنة دخوله فى غيبوبة ، جلست عند باب غرفة العناية المركزة أنظر له عبر الفاصل الزجاجي رافضة العودة إلى المنزل بدونه ، أنتظره ، أنتظر عودة الحياة بداخلى ، بعد أحد عشر ساعة من الإنتظار المميت بدأت صافرة جهاز القلب فى الإنطلاق ، لم أصدق ما يحدث ، أطباء و ممرضات دخلوا الغرفة و حجبوا عنى الرؤية ، أصبت بحاله هلع جمد الدماء بعروقى ، أربعون دقيقة فقط فصلت بين إسترداد روحى و فقدانها إلى الأبد، خرج الطبيب و على وجهه إمارات اليأس و الحزن

الطبيب : البقاء لله ، احنا عملنا كل اللى فى وسعنا ، ربنا يرحمه و يصبر قلبك

سمعت البقاء لله و لم أستطع تبين باقى كلامه و كأنى دخلت فقاعه تحجبنى عن العالم كله و سقطت مغشيًا علي .

شخص الطبيب حالتى بالإنهيار العصبي نتيجه الصدمة الكارثية التى تعرضت لها ، فقدت النطق بضعة أيام و لم أأكل إلا لقيمات صغيرة تبقيني على قيد الحياة ، كيف لى أن أحيا وقد خط القدر فى كتابى كلمة النهاية ، نهاية زواج دام عشر سنوات ، نهايتى و نهاية رفيقى الوحيد .

مر بعض الوقت و بعد معاناه مع الطبيب النفسي و العلاج الطبيعي تمكنت من النطق مرة أخرى و آنذاك أصررت على الخروج ، قهوة المشربية كانت وجهتى ، فضلت البقاء فى القهوة بما تحمله من ذكرى زوجي عن البقاء فى المنزل يحوم حولي  أشباح الحزن تدفعنى نحو الجنون أو الإكتئاب

اليوم و لأول مرة تخطو قدماى القهوة بدونه ، اليوم و لأول مرة يسألنى الحاج فتحي عنه ، عن نصفى الآخر فى الحياة الأخرى.

تعليقات

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مجرد حوار

وردة الكون الأولى